مقدّمة في آداب السفر و مستحبّاته، لحجّ أو غيره و هي امور:
أوّلها: و من أوكدها الاستخارة، بمعنى طلب الخير من ربّه و مسألة تقديره له، عند التردّد في أصل السفر أو في طريقه أو مطلقاً؛ و الأمر بها للسفر و كلّ أمر خطير أو مورد خطر مستفيض، و لا سيّما عند الحيرة و الاختلاف في المشورة؛ و هي الدعاء لأن يكون خيره فيما يستقبل أمره، و هذا النوع من الاستخارة هو الأصل فيها، بل أنكر بعض العلماء ما عداها ممّا يشتمل على التفؤّل و المشاورة بالرقاع و الحصى و السبحة و البندقة و غيرها، لضعف غالب أخبارها و إن كان العمل بها للتسامح في مثلها لا بأس به أيضاً؛ بخلاف هذا
______________________________
(1). الخوئي: هذا من سهو القلم، فإنّ الرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 258
النوع، لورود أخبار كثيرة بها في كتب أصحابنا، بل في روايات مخالفينا أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله الأمر بها و الحثّ عليها. و عن الباقر و الصادق عليهما السلام: «كنّا نتعلّم الاستخارة كما نتعلّم السورة من القرآن» و عن الباقر عليه السلام: «أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان يعمل به إذا همّ بأمر حجّ أو عمرة أو بيع أو شراء أو عتق»، بل في كثير من رواياتنا النهي عن العمل بغير استخارة و إنّه من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتلي لم يوجر، و في كثير منها: «ما استخار اللّه عبد مؤمن إلّا خار له و إن وقع ما يكره» و في بعضها: «إلّا رماه اللّه بخير الأمرين»؛ و في بعضها: «استخر اللّه مائة مرّة و مرّة، ثمّ انظر أجزم الأمرين لك فافعله، فإنّ الخيرة فيه إن شاء اللّه تعالى» و في بعضها: «ثمّ انظر أىّ شيء يقع في قلبك فاعمل به». و ليكن ذلك بعنوان المشورة من ربّه و طلب الخير من عنده و بناء منه أنّ خيره فيما يختاره اللّه له من أمره. و يستفاد من بعض الروايات أن يكون قبل مشورته ليكون بدء مشورته منه سبحانه، و أن يقرنه بطلب العافية؛ فعن الصادق عليه السلام: «و ليكن استخارتك في عافية فإنّه ربّما خير للرجل في قطع يده و موت ولده و ذهاب ماله». و أخصر صورة فيها أن يقول: أستخير اللّه برحمته أو أستخير اللّه برحمته خيرةً في عافية، ثلاثاً أو سبعاً أو عشراً أو خمسين أو سبعين أو مائة أو مائة مرّة و مرّة، و الكلّ مرويّ؛ و في بعضها: في الامور العظام مائة و في الامور اليسيرة بما دونه. و المأثور من أدعيته كثيرة جدّاً، و الأحسن تقديم تحميد و تمجيد و ثناء و صلوات و توسّل و ما يحسن من الدعاء عليها. و أفضلها بعد ركعتين للاستخارة أو بعد صلوات فريضة، أو في ركعات الزوال أو في آخر سجدة من صلاة الفجر أو في آخر سجدة من صلاة الليل أو في سجدة بعد المكتوبة، أو عند رأس الحسين عليه السلام أو في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله، و الكلّ مرويّ؛ و مثلها كلّ مكان شريف قريب من الإجابة كالمشاهد المشرّفة، أو حال أو زمان كذلك. و من أراد تفصيل ذلك، فليطلبه من مواضعه كمفاتيح الغيب للمجلسيّ قدس سره و الوسائل و مستدركه.
و بما ذكر من حقيقة هذا النوع من الاستخارة و أنّها محض الدعاء و التوسّل و طلب الخير و انقلاب أمره إليه، و بما عرفت من عمل السجّاد عليه السلام في الحجّ و العمرة و نحوها، يعلم أنّها راجحة للعبادات أيضاً، خصوصاً عند إرادة الحجّ، و لا يتعيّن فيما يقبل التردّد و الحيرة؛
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 259
و لكن في رواية اخرى: «ليس في ترك الحجّ خيرة»، و لعلّ المراد بها الخيرة لأصل الحجّ أو للواجب منه.
ثانيها: اختيار الأزمنة المختارة له من الاسبوع و الشهر، فمن الاسبوع يختار السبت و بعده الثلاثاء و الخميس، و الكلّ مرويّ. و عن الصادق عليه السلام: «من كان مسافراً فليسافر يوم السبت، فلو أنّ حجراً زال عن جبل يوم السبت لردّه اللّه إلى مكانه». و عنهم عليهم السلام: «السبت لنا، و الأحد لبني اميّة». و عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «اللّهم بارك لُامّتي في بكورها يوم سبتها و خميسها». و يتجنّب ما أمكنه صبيحة الجمعة قبل صلاتها، و الأحد، فقد روي: «أنّ له حدّاً كحدّ السيف»، و الاثنين فهو لبني اميّة، و الأربعاء فإنّه لبني العبّاس، خصوصاً آخر أربعاء من الشهر فإنّه يوم نحس مستمرّ؛ و في روايةٍ: ترخيص السفر يوم الاثنين مع قراءة سورة «هل أتى» في أوّل ركعة من غداته، فإنّه يقيه اللّه به من شرّ يوم الاثنين؛ و ورد أيضاً اختيار يوم الاثنين، و حملت على التقيّة. و ليتجنّب السفر من الشهر و القمر في المحاق أو في برج العقرب أو صورته، فعن الصادق عليه السلام: «من سافر أو تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسنى». و قد عدّ أيّام من كلّ شهر و أيّام من الشهر منحوسة يتوقّى من السفر فيها و من ابتداء كلّ عمل بها، و حيث لم نظفر بدليل صالح عليه لم يهمّنا التعرّض لها و إن كان التجنّب منها و من كلّ ما يتطيّر بها أولى؛ و لم يعلم أيضاً أنّ المراد بها شهور الفرس أو العربيّة، و قد يوجّه كلٌّ بوجه غير وجيه، و على كلّ حال فعلاجها لدى الحاجة بالتوكّل و المضيّ، خلافاً على أهل الطيرة، فعن النبيّ صلى الله عليه و آله: «كفّارة الطيرة التوكّل» و عن أبي الحسن الثاني عليه السلام: «من خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطيرة، وقي من كلّ آفة و عوفي من كلّ عاهة و قضى اللّه حاجته»؛ و له أن يعالج نحوسة ما نحس من الأيّام بالصدقة، فعن الصادق عليه السلام:
«تصدّق و اخرج أىّ يوم شئت» و كذا يفعل أيضاً لو عارضه في طريقه ما يتطيّر به الناس و وجد في نفسه من ذلك شيئاً، و ليقل حينئذٍ: «اعتصمت بك يا ربّ من شرّ ما أجد في نفسي فاعصمني» و ليتوكّل على اللّه و ليمض خلافاً لأهل الطيرة.
و يستحبّ اختيار آخر الليل للسير، و يكره أوّله، ففي الخبر: «الأرض تطوي من آخر الليل» و في آخر: «و إيّاك و السير في أوّل الليل و سر في آخره».
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 260
ثالثها: و هو أهمّها، التصدّق بشيء عند افتتاح سفره؛ و يستحبّ كونها عند وضع الرجل في الركاب، خصوصاً إذا صادف المنحوسة أو المتطيّر بها من الأيّام و الأحوال، ففي المستفيضة رفع نحوستها بها، و ليشتري السلامة من اللّه بما يتيسّر له. و يستحبّ أن يقول عند التصدّق: «اللّهم إنّي اشتريت بهذه الصدقة سلامتي و سلامة سفري، اللّهم احفظني و احفظ ما معي و سلّمني و سلّم ما معي و بلّغني و بلّغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل».
رابعها: الوصيّة عند الخروج، لا سيّما بالحقوق الواجبة.
خامسها: توديع العيال، بأن يجعلهم وديعة عند ربّه و يجعله خليفة عليهم؛ و ذلك بعد ركعتين أو أربع يركعها عند إرادة الخروج، و يقول: «اللّهم إنّي أستودعك نفسي و أهلي و مالي و ذرّيّتي و دنياي و آخرتي و أمانتي و خاتمة عملي»؛ فعن الصادق عليه السلام: «ما استخلف رجل على أهله بخلافة أفضل منها، و لم يدع بذلك الدعاء إلّا أعطاه اللّه- عزّ و جلّ- ما سأل».
سادسها: إعلام إخوانه بسفره؛ فعن النبيّ صلى الله عليه و آله: «حقّ على المسلم إذا أراد سفراً أن يعلم إخوانه، و حقّ على إخوانه إذا قدم أن يأتوه».
سابعها: العمل بالمأثورات، من قراءة السور و الآيات و الأدعية عند باب داره، و ذكر اللّه و التسمية و التحميد و شكره عند الركوب و الاستواء على الظهر و الإشراف و النزول و كلّ انتقال و تبدّل حال؛ فعن الصادق عليه السلام: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله في سفره إذا هبط سبّح و إذا صعد كبّر»، و عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «من ركب و سمّى، ردفه ملك يحفظه، و من ركب و لم يسمّ ردفه شيطان يمنّيه حتّى ينزل».
و منها: قراءة القدر للسلامة حين يسافر أو يخرج من منزله أو يركب دابّته، و آية الكرسيّ و السخرة و المعوّذتين و التوحيد و الفاتحة و التسمية و ذكر اللّه في كلّ حال من الأحوال.
و منها: ما عن أبي الحسن عليه السلام: «أنّه يقوم على باب داره تلقاء ما يتوجّه له، و يقرأ الحمد و المعوّذتين و التوحيد و آية الكرسيّ أمامه و عن يمينه و عن شماله، و يقول: اللّهم احفظني و احفظ ما معي و بلّغني و بلّغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل؛ يحفظ و يبلغ و يسلم
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 261
هو و ما معه».
و منها: ما عن الرضا عليه السلام: «إذا خرجت من منزلك في سفر أو حضر، فقل: بسم اللّه و باللّه توكّلت على اللّه ما شاء اللّه لا حول و لا قوّة إلّا باللّه؛ تضرب به الملائكة وجوه الشياطين و تقول: ما سبيلكم عليه و قد سمّى اللّه و آمن به و توكّل عليه؟»
و منها: ما كان الصادق عليه السلام يقول إذا وضع رجله في الركاب: «سبحان الّذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين» و يسبّح اللّه سبعاً و يحمده سبعاً و يهلّله سبعاً. و عن زين العابدين عليه السلام: «أنّه لو حجّ رجل ماشياً و قرأ «إنّا أنزلناه في ليلة القدر» ما وجد ألم المشي» و قال: «ما قرأه أحد حين يركب دابّته إلّا نزل منها سالماً مغفوراً له، و لقارئها أثقل على الدوابّ من الحديد». و عن أبي جعفر عليه السلام: «لو كان شيء يسبق القَدَرَ، لقلت: قارئ «إنّا أنزلناه في ليلة القدر» حين يسافر أو يخرج من منزله». و المتكفّل لبقيّة المأثور منها على كثرتها، الكتب المعدّة لها. و في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله: «يا عليّ إذا أردت مدينة أو قرية فقل حين تعاينها: اللّهم إنّى أسألك خيرها و أعوذ بك من شرّها، اللّهم حبّبنا إلى أهلها و حبّب صالحي أهلها إلينا» و عنه صلى الله عليه و آله: «يا عليّ إذا نزلت منزلًا فقل: اللّهم أنزلني منزلًا مباركاً و أنت خير المنزلين؛ ترزق خيره و يدفع عنك شرّه». و ينبغي له زيادة الاعتماد و الانقطاع إلى اللّه سبحانه، و قراءة ما يتعلّق بالحفظ، من الآيات و الدعوات و قراءة ما يناسب ذلك، كقوله تعالى: «كلّا إنّ معي ربّي سيهدين» و قوله تعالى: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا» و دعاء التّوجّه و كلمات الفرج و نحو ذلك. و عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «يسبّح تسبيح الزهراء و يقرأ آية الكرسيّ عند ما يأخذ مضجعه في السفر؛ يكون محفوظاً من كلّ شيء حتّى يصبح».
ثامنها: التحنّك، بإدارة طرف العمامة تحت حنكه؛ ففي المستفيضة عن الصادق و الكاظم عليهما السلام: «الضمان لمن خرج من بيته معتمّاً تحت حنكه أن يرجع إليه سالماً و أن لا يصيبه السرق و لا الغرق و لا الحرق».
تاسعها: استصحاب عصا من اللوز المرّ؛ فعنه عليه السلام: «من أراد أن تطوى له الأرض فليتّخذ النقد من العصا» و النقد: عصا لوز مرّ؛ و فيه نفي للفقر و أمان من الوحشة و الضواري و ذوات الحمّة. و ليصحب شيئاً من طين الحسين عليه السلام ليكون له شفاء من كلّ داء و
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 262
أماناً من كلّ خوف. و يستصحب خاتماً من عقيق أصفر مكتوب على أحد جانبيه: ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه أستغفر اللّه و على الجانب الآخر: محمّد و عليّ، و خاتماً من فيروزج مكتوب على أحد جانبيه: اللّه الملك و على الجانب الآخر: الملك للّه الواحد القهّار.
عاشرها: اتّخاذ الرفقة في السفر؛ ففي المستفيضة الأمر بها و النهي الأكيد عن الوحدة؛ ففي وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: «لا تخرج في سفرٍ وحدك، فإنّ الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد» و «لعن ثلاثة: الآكل زاده وحده، و النائم في بيتٍ وحده، و الراكب في الفلاة وحده». و قال: «شرّ الناس من سافر وحده، و منع رفده، و ضرب عبده؛ و أحبّ الصحابة إلى اللّه أربعة؛ و ما زاد على سبعة إلّا كثر لغطهم، أي تشاجرهم؛ و من اضطرّ إلى السفر وحده، فليقل: ما شاء اللّه لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، اللّهم آمن وحشتي و أعنّي على وحدتي و أدّ غيبتي». و ينبغي أن يرافق مثله في الإنفاق، و يكره مصاحبته دونه أو فوقه في ذلك؛ و أن يصحب من يتزيّن به و لا يصحب من يكون زينته له. و يستحبّ معاونة أصحابه و خدمتهم و عدم الاختلاف معهم و ترك التقدّم على رفيقه في الطريق.
الحادي عشر: استصحاب السفرة و التنوّق فيها و تطييب الزاد و التوسعة فيه، لا سيّما في سفر الحجّ. و عن الصادق عليه السلام: «إنّ من المروّة في السفر كثرة الزاد و طيبه، و بذله لمن كان معك»؛ نعم، يكره التنوّق في سفر زيارة الحسين عليه السلام، بل يقتصر فيه على الخبز و اللبن لمن قرب من مشهده كأهل العراق، لا مطلقاً في الأظهر، فعن الصادق عليه السلام: «بلغني أنّ قوماً إذا زاروا الحسين عليه السلام حملوا معهم السفرة فيها الجداء و الأخبصة و أشباهه، و لو زاروا قبور آبائهم ما حملوا معهم هذا» و في آخر: «تاللّه إنّ أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيباً حزيناً، و تأتونه أنتم بالسفر، كلّا حتّى تأتونه شعثاً غبراً».
الثاني عشر: حسن التخلّق مع صحبه و رفقته؛ فعن الباقر عليه السلام: «ما يعبأ بمن يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خلق يخالق به من صحبه، أو حلم يملك به غضبه، أو ورع يحجزه عن معاصي اللّه». و في المستفيضة: «المروّة في السفر ببذل الزاد و حسن الخلق و المزاح في غير المعاصي» و في بعضها: «قلّة الخلاف على من صحبك، و ترك الرواية عليهم إذا أنت فارقتهم». و عن الصادق عليه السلام: «ليس من المروّة أن يحدّث الرجل بما يتّفق في السفر
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 263
من خير أو شرّ»، و عنه عليه السلام: «وطّن نفسك على حسن الصحابة لمن صحبت في حسن خلقك و كفّ لسانك، و اكظم غيظك و أقلّ لغوك و تفرش عفوك و تسخي نفسك».
الثالث عشر: استصحاب جميع ما يحتاج إليه من السلاح و الآلات و الأدوية، كما في ذيل ما يأتي من وصايا لقمان لابنه، و ليعمل بجميع ما في تلك الوصيّة.
الرابع عشر: إقامة رفقاء المريض لأجله ثلاثاً؛ فعن النبيّ صلى الله عليه و آله: «إذا كنت في سفر و مرض أحدكم فأقيموا عليه ثلاثة أيّام» و عن الصادق عليه السلام: «حقّ المسافر أن يقيم عليه أصحابه إذا مرض، ثلاثاً».
الخامس عشر: رعاية حقوق دابّته؛ فعن الصادق عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: للدابّة على صاحبها خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، و يعرض عليها الماء إذا مرّ به، و لا يضرب وجهها فإنّها تسبّح بحمد ربّها، و لا يقف على ظهرها إلّا في سبيل اللّه، و لا يحملها فوق طاقتها، و لا يكلّفها من المشي إلّا ما يطيق» و في آخر: «و لا تتورّكوا على الدوابّ و لا تتّخذوا ظهورها مجالس» و في آخر: «و لا يضربها على النفار، و يضربها على العثار، فإنّها ترى ما لا ترون».
و يكره التعرّس على ظهر الطريق و النزول في بطون الأودية و الإسراع في السير و جعل المنزلين منزلًا إلّا في أرض جدبة، و أن يطرق أهله ليلًا حتّى يعلمهم. و يستحبّ إسراع عوده إليهم و أن يستصحب هديّة لهم إذا رجع إليهم؛ و عن الصادق عليه السلام: «إذا سافر أحدكم فقدّم من سفره فليأت أهله بما تيسّر و لو بحجر ...» الخبر.
و يكره ركوب البحر في هيجانه؛ و عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا اضطرب بك البحر فاتّكِ على جانبك الأيمن و قل: بسم اللّه أسكن بسكينة اللّه و قرّ بقرار اللّه و اهدأ بإذن اللّه و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه».
و لينادي إذا ضلّ في طريق البرّ: «يا صالح يا أبا صالح! أرشدونا رحمكم اللّه» و في طريق البحر: «يا حمزة». و إذا بات في أرض قَفر، فليقل: «إن ربّكم [اللّه] الّذي خلق السماوات و الأرض ثمّ استوى» إلى قوله: «تبارك اللّه ربّ العالمين».
و ينبغي للماشي أن ينسل في مشيه، أي يسرع؛ فعن الصادق عليه السلام: «سيروا و انسلوا فإنّه أخفّ عنكم» «و جاءت المشاة إلى النبي صلى الله عليه و آله فشكوا إليه الإعياء، فقال: عليكم بالنسلان،
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 264
ففعلوا فذهب عنهم الإعياء». و أن يقرأ سورة القدر لئلّا يجد ألم المشي، كما مرّ عن السجّاد عليه السلام. و عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «زاد المسافر الحداء و الشعر ما كان منه ليس فيه خناء» و في نسخة: «جفاء» و في اخرى: «حنان»؛ و ليختر وقت النزول من بقاع الأرض أحسنها لوناً و ألينها تربةً و أكثرها عشباً. هذه جملة ما على المسافر.
و أمّا أهله و رفقته، فيستحبّ لهم تشييع المسافر و توديعه و إعانته و الدعاء له بالسهولة و السلامة و قضاء المآرب عند وداعه. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من أعان مؤمناً مسافراً فرّج اللّه عنه ثلاثاً و سبعين كربة و أجاره في الدنيا و الآخرة من الغمّ و الهمّ و نفّس كربه العظيم يوم يعضّ الناس بأنفاسهم» و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا ودّع المؤمنين قال:
«زوّدكم اللّه التقوى و وجّهكم إلى كلّ خير و قضى لكم كلّ حاجة و سلّم لكم دينكم و دنياكم و ردّكم سالمين إلى سالمين» و في آخر: «كان إذا ودّع مسافراً أخذ بيده ثمّ قال:
أحسن لك الصحابة و أكمل لك المعونة و سهّل لك الحزونة و قرب لك البعيد و كفاك المهمّ و حفظ لك دينك و أمانتك و خواتيم عملك و وجّهك لكلّ خير، عليك بتقوى اللّه، استودع اللّه نفسك، سر على بركة اللّه- عزّ و جلّ-». و ينبغي أن يقرأ في اذنه: «إنّ الّذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد إن شاء اللّه» ثمّ يؤذّن خلفه و ليُقم، كما هو المشهور عملًا. و ينبغي رعاية حقّه في أهله و عياله و حسن الخلافة فيهم، لا سيّما مسافر الحجّ، فعن الباقر عليه السلام:
«من خلف حاجّاً بخير كان له كأجره كأنّه يستلم الأحجار» و أن يوقّر القادم من الحجّ، فعن الباقر عليه السلام: «وقّروا الحاجّ و المعتمر فإنّ ذلك واجب عليكم» و كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول: «يا معشر من لم يحجّ استبشروا بالحاجّ و صافحوهم و عظّموهم، فإنّ ذلك يجب عليكم، تشاركوهم في الأجر» و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول للقادم من مكّة: «قبل اللّه منك و أخلف عليك نفقتك و غفر ذنبك».
و لنتبرّك بختم المقام بخير خبر تكفّل مكارم أخلاق السفر، بل و الحضر؛ فعن الصادق عليه السلام قال: «قال لقمان لابنه: يا بنىّ! إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و امورهم و أكثر التبسّم في وجوههم، و كن كريماً على زادك، و إذا دعوك فأجبهم و إذا استعانوا بك فأعنهم، و استعمل طول الصمت و كثرة الصلاة و سخاء النفس بما معك من دابّة
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 265
أو ماء أو زادٍ، و إذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم و اجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت و تنظر، و لا تُجب في مشورة حتّى تقوم فيها و تقعد و تنام و تأكل و تضع و أنت مستعمل فكرتك و حكمتك في مشورتك، فإنّ من لم يمحّض النصح لمن استشاره سلبه اللّه رأيه و نزع منه الأمانة؛ و إذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم و إذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، فإذا تصدّقوا أو أعطوا قرضاً فأعط معهم، و اسمع لمن هو أكبر منك سنّاً، و إذا أمروك بأمر و سألوك شيئاً فقل: نعم، و لا تقل: لا، فإنّها عيّ و لؤم؛ و إذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا و إذا شككتم في القصد فقفوا أو تؤامروا، و إذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم و لا تسترشدوه، فإنّ الشخص الواحد في الفلات مريب، لعلّه يكون عن اللصوص أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم، و احذروا الشخصين أيضاً إلّا أن ترون ما لا أرى، فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحقّ منه، و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. يا بنىّ! إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها و استرح منها فإنّها دين، و صلّ في جماعة و لو على رأس زجّ. و لا تنامنّ على دابّتك، فإنّ ذلك سريع في دبرها و ليس ذلك من فعل الحكماء، إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل، و إذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك و ابدأ بعلفها فإنّها نفسك، و إذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً و ألينها تربةً و أكثرها عشباً، و إذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس، و إذا أردت قضاء حاجتك فابعد المذهب في الأرض؛ و إذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها و سلّم عليها و على أهلها، فإنّ لكلّ بقعة أهلًا من الملائكة، فإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتّى تبدأ و تصدّق منه فافعل؛ و عليك بقراءة كتاب اللّه ما دمت راكباً، و عليك بالتسبيح ما دمت عاملًا عملًا، و عليك بالدعاء ما دمت خالياً. و إيّاك و السير في أوّل الليل، و سر في آخره، و إيّاك و رفع الصوت. يا بنىّ! سافر بسيفك و خفّك و عمامتك و حبالك و سقائك و خيوطك و مخرزك، و تزوّد معك من الأدوية فانتفع به أنت و من معك؛ و كن لأصحابك موافقاً إلّا في معصية اللّه- عزّ و جلّ-».
هذا ما يتعلّق بكلّيّ السفر. و يختصّ سفر الحجّ بامور اخر:
منها: اختيار المشي فيه على الركوب على الأرجح، بل الحفاء على الانتعال، إلّا أن
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 266
يضعفه عن العبادة أو كان لمجرّد تقليل النفقة، و عليهما يحمل ما يستظهر منها أفضليّة الركوب، و روي: «ما تقرّب العبد إلى اللّه عزّ و جلّ بشيء أحبّ إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين، و إنّ الحجّة الواحدة تعدل سبعين حجّة و ما عبد اللّه بشيء مثل الصمت و المشي إلى بيته».
و منها: أن تكون نفقة الحجّ و العمرة حلالًا طيّباً؛ فعنهم: «إنّا أهل بيت حجّ، صرورتنا و مهور نسائنا و أكفاننا من طهور أموالنا» و عنهم:: «من حجّ بمال حرام نودي عند التلبية: لا لبّيك عبدي و لا سعديك» و عن الباقر عليه السلام: «من أصاب مالًا من أربع لم يقبل منه في أربع:
من أصاب مالًا من غلول أو رباء أو خيانة أو سرقة، لم يقبل منه في زكاة و لا صدقة و لا حجّ و لا عمرة».
و منها: استحباب نيّة العود إلى الحجّ عند الخروج من مكّة، و كراهة نيّة عدم العود؛ فعن النبيّ صلى الله عليه و آله: «من رجع من مكّة و هو ينوي الحجّ من قابل، زيد في عمره، و من خرج من مكّة و لا يريد العود إليها فقد اقترب أجله و دنا عذابه» و عن الصادق عليه السلام مثله مستفيضاً؛ و قال لعيسى بن أبي منصور: «يا عيسى! إنّي احبّ أن يراك اللّه فيما بين الحجّ إلى الحجّ و أنت تتهيّأ للحجّ».
و منها: أن لا يخرج من الحرمين الشريفين بعد ارتفاع النهار إلّا بعد أداء الفرضين بهما.
و منها: البدءة بزيارة النبيّ صلى الله عليه و آله لمن حجّ على طريق العراق.
و منها: أن لا يحجّ و لا يعتمر على الإبل الجلّالة، و لكن لا يبعد اختصاص الكراهة بأداء المناسك عليها، و لا يسري إلى ما يسار عليها من البلاد البعيدة في الطريق.
و من أهمّ ما ينبغي رعايته في هذا السفر، احتسابه من سفر آخرته بالمحافظة على تصحيح النيّة و إخلاص السريرة و أداء حقيقة القربة و التجنّب عن الرياء و التجرّد عن حبّ المدح و الثناء؛ و أن لا يجعل سفره هذا على ما عليه كثير من مترفي عصرنا من جعله وسيلة للرفعة و الافتخار، بل وصلة إلى التجارة و الانتشار و مشاهدة البلدان و تصفّح الأمصار؛ و أن يراعي أسراره الخفيّة و دقائقه الجليّة، كما يفصح عن ذلك ما أشار إليه بعض الأعلام: إنّ اللّه تعالى سنّ الحجّ و وضعه على عباده إظهاراً لجلاله و كبريائه و علوّ شأنه و عظم سلطانه، و إعلاناً لرقّ الناس و عبوديّتهم و ذلّهم و استكانتهم، و قد عاملهم في ذلك
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 267
معاملة السلاطين لرعاياهم و الملّاك لمماليكهم، يستذلّونهم بالوقوف على باب بعد باب و اللبث في حجاب بعد حجاب. و إنّ اللّه تعالى قد شرّف البيت الحرام و أضافه إلى نفسه و اصطفاه لقدسه و جعله قياماً للعباد و مقصداً يؤمّ من جميع البلاد، و جعل ما حوله حرماً و جعل الحرم أمناً، و جعل فيه ميداناً و مجالًا و جعل له في الحلّ شبيهاً و مثالًا، فوضعه على مثال حضرة الملوك و السلاطين، ثمّ أذّن في الناس بالحجّ ليأتوه رجالًا و ركباناً من كلّ فجّ و أمرهم بالإحرام و تغيير الهيئة و اللباس شُعثاً غبراً متواضعين مستكينين رافعين أصواتهم بالتلبية و إجابة الدعوة، حتّى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول و أوقفهم في حجبه يدعونه و يتضرّعون إليه، حتّى إذا طال تضرّعهم و استكانتهم و رجموا شياطينهم بجمارهم و خلعوا طاعة الشيطان من رقابهم، أذن لهم بتقريب قربانهم و قضاء تفثهم، ليطهّروا من الذنوب الّتي كانت هي الحجاب بينهم و بينه و ليزوروا البيت على طهارة منهم، ثمّ يعيدهم فيه بما يظهر معه كمال الرقّ و كنه العبوديّة، فجعلهم تارةً يطوفون فيه و يتعلّقون بأستاره و يلوذون بأركانه، و اخرى يسعون بين يديه مشياً و عدواً، ليتبيّن لهم عزّ الربوبيّة و ذلّ العبوديّة و ليعرفوا أنفسهم و يضع الكبر من رءوسهم و يجعل نير الخضوع في أعناقهم و يستشعروا شعار المذلّة و ينزعوا ملابس الفخر و العزّة. و هذا من أعظم فوائد الحجّ، مضافاً إلى ما فيه من التذكّر بالإحرام و الوقوف في المشاعر العظام لأحوال المحشر و أهوال يوم القيامة، إذ الحجّ هو الحشر الأصغر و إحرام الناس و تلبيتهم و حشرهم إلى المواقف و وقوفهم بها والهين متضرّعين راجعين إلى الفلاح أو الخيبة و الشقاء، أشبه شيء بخروج الناس من أجداثهم و توشّحهم بأكفانهم و استغاثتهم من ذنوبهم و حشرهم إلى صعيد واحد إلى نعيم أو عذاب أليم، بل حركات الحاجّ في طوافهم و سعيهم و رجوعهم و عودهم يشبه أطوار الخائف الوجل المضطرب المدهوش الطالب ملجأً و مفزعاً، نحو أهل المحشر في أحوالهم و أطوارهم، فبحلول هذه المشاعر و الجبال و الشعب و الطلال و لدىٰ وقوفه بمواقفة العظام يهوّن ما بأمامه من أهوال يوم القيام من عظائم يوم الحشر و شدائد النشر؛ عصمنا اللّه و جميع المؤمنين و رزقنا فوزه يوم الدين، آمين ربّ العالمين (1).
______________________________
(1). من أوّل كتاب الحجّ إلى هنا لنجله الأمجد الأوحد حضرة السيّد محمّد بأمر والده- دام ظلّهما و علا مجدهما-.
العروة الوثقى مع التعليقات، ج2، ص: 268